المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين ظاهرة الفتور والانحطاط بعد الجد في العبادة والنشاط ظاهرة يصاب بها كثير من المسلمين في كثير من الأحيان، لاسيما بعد مواسم الخيرات كشهر رمضان، ومن هنا تظهر أهمية (المداومة على العمل الصالح)؛ فهو شعار المؤمنين وديدن المخلصين، ولنا من سلف الأمة الذين ضربوا أروع الأمثلة في المداومة على الأعمال الصالحة خير قدوة وأسوة. |
داء الإعراض والفتور
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك في أول جمعة بعد شهر رمضان، وكعادتنا سوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: إعراض وفتور. ثانياً: ثمار زكية. ثالثاً: أسباب معينة. رابعاً: مُثل عليا. وأخيراً: احذر الموت. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! فإن هذا الموضوع بعد رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: إعراض وفتور. أيها الأحبة الكرام! هاهي الساعات تمر، والأيام تجرى وراءها، وانتهى شهر رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقُبل فيه من قُبل، وطُرد فيه من طُرد، فياليت شعري من المقبول منا فنهنئه ومن المطرود منا فنعزيه؟! فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقى إخوتي من فضل أعمار أيها الأحبة! لقد رأينا المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان، ورأينا المساجد في رمضان مزدحمة بصفوف المصلين، بل وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بالذكر وكلام رب العالمين، بل وأسعد قلوبنا في رمضان تنافس أهل البر من المحسنين. ولكن.. مع أول فجر من شهر شوال يتألم قلبك، وتبكي عينك، ويتحسر فؤادك، وتتمزق نفسك حسرات! أين المؤمنون؟! أين المصلون في رمضان؟! أين القائمون لله في رمضان؟! أين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! سترى المساجد خاوية مع أول فجر من شهر شوال تشكو حالها إلى الكبير المتعال!! ما الذي حدث؟ ترى إعراضاً وفتوراً يؤلم القلب الأبي التقي النقي. والفتور في اللغة: هو الانقطاع بعد الاستمرار، وهو التكاسل والتباطؤ والتراخي؛ كما قال ابن منظور في لسان العرب: فتر يفتر فتوراً. أي: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة. فإنك ترى يا عبد الله فتوراً ملفتاً لجميع الأنظار مع انقضاء آخر ليلة من ليالي شهر رمضان، بل ولست مبالغاً -ورب الكعبة- إذا قلت: إن هذا الفتور قد يتطرق ويزيد إلى درجة الإعراض، لا عن نافلة من النوافل، بل عن فريضة افترضها الله عز جل على عباده على الدوام، لا في المناسبات ومواسم الطاعات، كأن يعرض كثير من المسلمين عن صلاة الفريضة في غير رمضان. يا عبد الله! هل كنت تعبد في رمضان رباً، وتعبد في بقية الشهور رباً آخر؟! إن رب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام.. هو الإله الواحد الحق الذي لا ند له، ولا ضد له، ولا شريك له، ولا والد له، ولا ولد له. (قل هو الله أحد) أحد في أسمائه.. أحد في صفاته.. أحد في أفعاله. فيا من صليت لله في رمضان وضيعت الصلاة في غير رمضان احذر واعلم يقيناً بأن هذه الصفة من علامات النفاق، أسأل الله أن يملأ قلبي وقلبك إيماناً، إنه ولي ذلك ومولاه. إن المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين، بل ومن أحب القربات إلى الله رب العالمين؛ كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، بل وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها كذلك قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) أي: داوم وواظب عليه، فكان إذا فاته شيء من صلاة الليل لنوم أو مرض صلاه في النهار، وإذا فاته شيء من عبادة الليل قضاها في النهار ما بين الفجر والظهر، فيصلي في النهار مثلاً اثنتي عشرة ركعة. ......
ثمار زكية للمداومة على الأعمال الصالحة
لقد رأيت أن من الحكمة ومن الفقه أن يكون حديثنا في أول جمعة في شهر شوال عن التذكير للأحباب والأخيار؛ بالمداومة على طاعة العزيز الغفار، أسأل الله أن يختم لنا ولكم بالطاعة إنه على كل شيء قدير، وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي بفضل المداومة على الطاعة، هو عنصرنا الثاني وعنوانه: (ثمار زكية). ثمار زكية للمداومة على الأعمال الصالحات التي ترضي رب البرية، فإن من داوم على العمل الصالح وذاق حلاوة هذه المداومة سعد في الدنيا والآخرة. وانتبه معي أيها الكريم! لتتعرف على أهم الثمار للمدوامة على العمل الصالح الذي يرضي العزيز الغفار. ......
تفريج الكربات والمصائب والأزمات
ثالثاً: من أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح: أنها سبب لتفريج الكربات والمصائب والأزمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس ، والحديث رواه الترمذي وأحمد وهو حديث حسن صحيح، قال ابن عباس : (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال النبي: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء؛ لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). وفي لفظ أحمد في مسنده قال صلى الله عليه وآله سلم: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قال ابن عباس : قلت: بلى يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: احفظ الله تجده أمامك؛ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة). فيا من داومت على العمل الصالح في الرخاء، لن يتخلى الله عز وجل عنك في وقت الشدة والبلاء: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)، فالمداومة على العمل الصالح من أعظم الأسباب للنجاة من الكروب والشدائد والبلايا والمصائب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
حسن الخاتمة والفوز بالجنة
ومن أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح، أنها سبب لحسن الخاتمة والفوز بالجنة، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة. كيف ذلك؟! يقول الحافظ ابن كثير : لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه؛ فإن عشت على طاعة وعلى عمل صالح اقتضى عدل الله أن يتوفاك على ذات الطاعة ونفس العمل الصالح، فإن مت على هذه الطاعة بعثت على ذات الطاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث جابر : (يبعث كل عبد على ما مات عليه). ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه الترمذي وأحمد وهو حديث صحيح: (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه). اللهم استعملنا لطاعتك يا رب العالمين! هذا هو الاستعمال: إذا وفقت للعمل الصالح وداومت عليه، قبضت على هذا العمل الصالح وعلى نفس الطاعة، وبعثت على نفس الطاعة. ومن أعجب ما سمعت في الأسبوع الماضي: قصة طفل صغير لا يجاوز العاشرة من عمره: لما ذهبت إلى القاهرة في خطبة جمعة رأيت هذا الطفل بين يدي إلى جوار المنبر، فتعلقت به وتعرفت عليه، وفي الجمعة الماضية أقبل علي والده يبكي، فقلت له: أين ولدك؟! فبكى، قلت: سبحان الله! ما الذي حدث؟! قال: مات! قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أسأل الله عز وجل أن يعوضك خيراً، وأن يجعله فرطاً لك على الحوض، فقال لي: والله يا شيخ! أنا ما أبكي لفراقه، وإنما أبكي لحاله، فلقد رأينا منه عجباً عجاباً. هذا الطفل الصغير رأى الإخوة الكبار العجب العجاب في حياته؛ فقد كان يأخذ مصروفه فيشتري شريطاً، ويسمع الشريط ثم يعيره لبعض إخوانه، ويأخذ جزءاً من مصروفه فيضعه في صندوق المسجد، ويشتري بالجزء الآخر قدراً من الحلوى ليوزعه على الفقراء، سبحان الله! وفي اليوم الكريم المبارك في أول جمعة من شهر رمضان اغتسل في بيته وقال لهم: أريد أن أخرج مبكراً حتى أكون في أول الصفوف في صلاة الجمعة، ولبس ثوباً أبيض جميلاً وتطيب وتعطر، وهو في طريقه إلى المسجد ينزل من السيارة وبينه وبين باب المسجد أمتار، فتأتي سيارة أخرى لتصدمه في الحال، فيُحمل وهو في غيبوبة الموت إلى المستشفى، وقرر الأطباء أن الطفل يحتضر، وأنه بالفعل في غيبوبة الموت. ولما هم الطبيب أن ينصرف وقبل أن يخرج من غرفة العمليات أو من غرفة العناية المركزة، إذا بالأذان يرفع على المآذن للمساجد القريبة من المستشفى، إنه أذان الجمعة، فلتفتت الأنظار إلى هذا الطفل العجيب حينما رفع يديه وأشار بسبابته إلى السماء، بعد أن عجز لسانه أن يردد (لا إله إلا الله) فتحرك القلب في صدره فأصدر الأوامر إلى هذه الجلود والأعضاء، فارتفعت اليد وأشارت السبابة بإعلان توحيد الله.. إنها الخاتمة! إنها الخواتيم يا عباد الله. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة. عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم). ويقول الله جل وعلا: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]. وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، اللهم اجعلنا من المحسنين يا رب العالمين! (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا)، يا من جاهدت نفسك!. يا من صبّرت نفسك على طريق الطاعة وصبرت نفسك عن المعصية! اعلم أن موعود الله أن يهديك السبيل، وأن يثبتك ويسددك على الطريق، وأن يكون معك؛ لأنك حينئذٍ ستكون مع المحسنين، والمحسن: هو الذي يعبد الله كأنه يراه، وهو يعلم يقيناً أنه إن لم ير الله فإن الله جل وعلا يراه (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
محبة الله للعبد
ثانياً: من أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح: أنها سبب لمحبة الله للعبد، وانتبه أيها الكريم! فأنا أقول: سبب لمحبة الله للعبد، ولم أقل: سبب لمحبة العبد للرب، وشتان شتان بين المنزلتين. أخي! المداومة على العمل الصالح سبب لمحبة الله للعبد، ومحبة العبد لربه أمر طبيعي، أما محبة الله جل وعلا لعبده فهي أمر تحبس أمامه ألسنة البلغاء والفصحاء، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي الجليل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، فالمداومة على العمل الصالح بفروضه ونوافله سبب لمحبة الله للعبد. يا عبد الله! ماذا أنت صانع لو علمت أن رجلاً كبيراً من أهل الدنيا كملك من الملوك أو رئيس من الرؤساء أو وزير من الوزراء قد أعلن على مسمع من الناس ومرأى أنه يحبك؟! ماذا أنت صانع لو أعلن الإعلام على لسان هذا الرجل -وهو مهما علا فهو عبد فقير حقير إلى الله- أنه يحب فلاناً من الناس؟! تدبر في هذا!! ولله المثل الأعلى! بعد هذه أقول لك: ماذا أنت صانع لو علمت أن الملك يحبك؟! فكر في هذه وتدبرها جيداً، تدبر أن الله هو الذي سيحبك، إذا ما داومت على العمل الصالح بفروضه ونوافله.
طهارة القلب من النفاق
أول هذه الثمار: أن المداومة على العمل الصالح سبب لطهارة القلب من النفاق، وصلة القلب بربه الخلاق، وهل تريد شيئاً أعظم من هذا؟! إن القلب هو الأصل الذي ينبغي أن تبذل من أجله الأوقات والمجهودات، بل والأموال والدعوات، فإن القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: (القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإن خبث الملك خبثت جنوده)، فصلاح القلب صلاح للبدن كله، وفساد القلب فساد للبدن كله، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث مخرج في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فالقلب هو الأصل، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الأعمال تتفاضل عند الله جل وعلا بتفاضل ما في القلوب لا بكثرتها وصورها. ومعنى ذلك: أن الإنسان قد يفعل فعلاً عظيماً وعملاً كبيراً في أعين الناس، وهو عند الله حقير لا وزن له؛ لأنه ما انطلق في هذا العمل إلا من أجل السمعة، والشهرة، والرياء والنفاق، والله أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع الله غير الله، ترك الله ذلك العمل لصاحبه ولشريكه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. وقد يعمل الإنسان عملاً هو في أعين الناس حقير، ولكنه عند الله عظيم؛ لأنه ابتغى بهذا العمل وجه الله الكريم، تصدقت عائشة يوماً بتمرة فتعجب بعض الناس وقالوا: يا أم المؤمنين! تتصدقين بتمرة؟ قالت: نعم. ألم تقرأ قول الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]؟ قال: بلى. قالت: وإن في هذه التمرة ذرات خير كثيرة! إنه الإخلاص! فالأعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب لا بكثرة الأعمال ولا بصورها؛ لذا قال سيد الرجال صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فقدم الحبيب القلوب على الأعمال؛ لأن العمل لا يقبل إلا إذا كان صاحب هذا العمل يبتغي بعمله هذا وجه الله جل وعلا. والأعمال تتفاضل بتفاضل القلوب لا بكثرة الأعمال وصورها، فإذا استنار القلب بنور التوحيد والإيمان أقبلت إليه وفود الخيرات من كل ناحية؛ فتنقل صاحب هذا القلب من طاعة إلى طاعة، وإذا أظلم القلب -أعاذنا الله وإياكم من ظلام القلب وسواده- أقبلت عليه سحائب البلاء والشرور والهلاك، فانتقل صاحب هذا القلب المظلم من معصية إلى معصية، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط في غياهب الظلام. أيها الأحبة الكرام! القلب هو الأصل ولذا فإن من أعظم علامات صحة القلب وطهارته من النفاق: المداومة على العمل الصالح. أيها الأحبة الكرام! لذلك خاف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم من النفاق، أو أن يكون القلب قد تسرب إليه شيء من النفاق وصاحب هذا القلب لا يدري، ولذلك قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] فقالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه) لذا كان الصحابة يخشون على أنفسهم من النفاق، حتى لا يظن ظان أنه أعلى من مستوى الوقوع في هذا الداء العضال. يقول ابن أبي مليكة والأثر رواه البخاري تعليقاً: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وما منهم أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل. بل لقد ذهب فاروق الأمة عمر -الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه- إلى حذيفة بن اليمان الذي أطلعه النبي على أسماء المنافقين، ذهب إليه عمر يقول له: أسألك بالله يا حذيفة ! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟! هذا عمر الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه يخشى النفاق على نفسه! ويقول الحسن البصري : ما أمن النفاق إلا منافق، وما خاف النفاق إلا مؤمن، فبالجملة أقول: إن من أعظم علامات طهارة القلب وصحته أن يداوم صاحب هذا القلب على العمل الصالح، فإن من عبد الله في موسم طاعة، وتخلى بعد ذلك عن الطاعة، فإن هذا من أعظم العلامات على نفاق القلب. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول العمل.
الأسباب المعينة على المداومة على العمل الصالح
والعنصر الثالث من عناصر هذا اللقاء يظهر بالإجابة على سؤال مهم هو: ما هو السبيل إلى هذا الخير العظيم، وما هي الأسباب التي تعيننا على الوصول إلى هذا القدر الكبير؟ إنها أسباب أبذلها لي ولك لنستعين بها على الطاعات والأعمال الصالحات، لنلقى عليها رب الأرض والسماوات جل وعلا. ......
صحبة الأخيار
وأخيراً من الأسباب التي تعين على المداومة والاستمرار في العمل الصالح: صحبة الأخيار؛ لأن الإنسان قد ينشط إذا رأى إخوانه من حوله على طاعة الله جل وعلا، وقد يشعر الإنسان بالخجل من نفسه إذا رأى إخوانه في طاعة وهو مقصر، وما دمت قد انطلقت في عملك ابتغاء مرضاة الله جل وعلا، فاصحب الأخيار والأطهار والصالحين الذين إذا رأيتهم تذكرك رؤيتهم بالله جل وعلا وبطاعة الله؛ ففي سنن ابن ماجة -والحديث حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) فصاحِب مفاتيح الخير ليفتحوا قلبك لحب الله وذكر الله وطاعة الله جل وعلا، وانصرف عن مفاتيح الشر الذين يغلقون قلبك عن طاعة الله وعن حب الله وعن ذكر الله جل وعلا. قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه رائحة منتنة) والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم بهذا وظيفة الحدادة، وإنما هو مثل للتوضيح والإيضاح، فاحرص على صحبة الأطهار.. احرص على صحبة الأخيار.. احرص على صحبة الذين يذكرونك بالعزيز الغفار، فإن صحبتهم ستعينك على طاعة الله، وستأخذ بيديك على الاستمرار والمداومة على العمل الصالح حتى تلقى الله جل وعلا وأنت على طاعة. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الاعتدال والاقتصاد في الأعمال والطاعات
ثانياً: من أعظم الأسباب التي تعيننا على المداومة على العمل الصالح: الاقتصاد والاعتدال في الأعمال والطاعات، فلا تشدد على نفسك ولا تسرف فلا إفراط ولا تفريط، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأنا أخاطب الآن الشباب بصفة خاصة لأن الله عز وجل لا يكلفك ما لا تطيق: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] فلا تغال أيها الحبيب! ولا تشدد على نفسك. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري ، قال الحبيب: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). أخي الحبيب! إن عجزت أن تصل إلى ما تريد فقارب -أي: اقترب من هذا الخير الذي تريد أن تداوم عليه- ولا تكلف نفسك بعمل قد تعجز عنه بعد أسبوع أو بعد شهر أو شهرين، فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، فالاقتصاد والاعتدال بلا إفراط أو تفريط من هدي سيد الرجال صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين: (أن الحبيب دخل المسجد يوماً فوجد حبلاً ممتداً بين ساريتين في المسجد -أي: بين عمودين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الحبل؟ قالوا: إنه حبل لـزينب رضوان الله عليها، قال: ولمَ؟ قالوا: إذا فترت -يعني: إذا تكاسلت عن العبادة تعبت- تعلقت به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه). اسمع لهذه العبارات النبوية الكريمة، من المشرع الأعظم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حيث قال: حلوه، ثم التفت إلى أصحابه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه) أي: على قدر نشاطه وعلى قدر استطاعته (فإذا فتر فليرقد). انظر إلى التشريع: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) لأنه لابد للنفس من فترات للترويح، وليس ذلك بالمعصية كما يظن كثير من الناس فيقول: ساعة وساعة. أي: ساعة لقلبك وساعة لربك، وإذا قلت له: ماذا تقصد أيها الكريم بساعة لقلبك؟ يقول: ألهو وأسمر وأقضي الوقت أمام المسلسلات المسلية وإن كانت في المعاصي!! لا يا أخي! لا أيها الحبيب! وإنما ساعة وساعة تفهم من حديث حنظلة : ( لما قابل الصديق رضي الله عنه، وقال له: نافق حنظلة ، قال: ومم ذاك؟ قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار حتى كأنها رأي عين، فإذا عدنا إلى الأولاد أو إلى البيوت عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال أبو بكر : والله إني لأجد ما تجد، فانطلقا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقال حنظلة : نافق حنظلة يا رسول الله! قال: مم ذاك؟ فأخبره بما قال لـأبي بكر رضي الله عنه، فقال المصطفى: يا حنظلة ! والذي نفسي بيده لو تدومون على الحالة التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة!) أي: ساعة تبكي فيها العيون، وتخضل فيها اللحى، وساعة عودوا فيها إلى الأزواج فداعبوا الزوجات وداعبوا الأولاد والبنين والبنات، واهتموا بالضيعات -أي: بالتجارة والأعمال- ولا مانع من ذلك على الإطلاق. هذا هو معنى الحديث: (ساعة وساعة) أي: ساعة للرب جل وعلا .. للآخرة، وساعة للدنيا، أما أن يقال: ساعة لقلبك وساعة لربك، وأن تقضي ساعة القلب في معصية الله فهذا لا يرضي الله جل وعلا. أيها الأحبة! الاقتصاد والاعتدال والترويح عن النفس من أعظم الأسباب التي تعين الإنسان على أن يستمر وأن يداوم على العمل الصالح، وأنتم تعلمون قصة الثلاثة الذين جاءوا لبيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، والحديث رواه البخاري و مسلم من حديث أنس ، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها، وقالوا: (وأين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد أبداً، وقال الآخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ قالوا: بلى، قال: أما إني لأخشاكم وأتقاكم لله عز وجل، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، إنه التوازن بين أمر الدين والدنيا، ولذلك يجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج العظيم العجيب في هذا الدعاء الذي رواه مسلم في دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري) تدبر في هذا المنهج المتوازن المعتدل، يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر). أيها الأحبة! إن المتشدد الغالي المفرط لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: (كان أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، تقول: ولو نزل أولاً لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقال الناس: لن ندع الخمر ولن ندع الزنا أبداً). لكنه التدرج، وهذا ما فهمه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يوم أن ذهب إليه ولده وقال له: يا أبتِ! ما لي أراك لا تحمل الناس على الحق جملة واحدة -حماس الشباب مع صدق وإخلاص- فوالله لا أبالي إن غلت بي وبك القدور في سبيل الله. أي: لا أبالي بأن أبتلى أنا وأنت في سبيل الله جل وعلا، فقال الوالد الفقيه عمر بن عبد العزيز : (يا بني! إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، يا بني إني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة واحدة فيدعوا الحق جملة واحدة فتكون فتنة). أيها الحبيب! إن التدرج في الأعمال من أعظم الأسباب التي تعينك على المداومة على العمل الصالح.
الاستعانة بالله جل وعلا
إن من أعظم الأسباب التي تعينك على المداومة على العمل الصالح: أن تستعين بالملك جل وعلا، فإن من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاطلب العون من الله أن يسددك وأن يؤيدك ويوفقك للعمل الصالح الذي يرضيه؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ رضي الله عنه، حينما أمسكه بيده وقال: (يا معاذ ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: والله إني لأحبك). قسم ورب الكعبة يجف أمامه الحلق ويخشع أمامه الفؤاد، لو أقسم معاذ أنه يحب رسول الله لكان الأمر عادياً، ولكن الذي يقسم بالله على حب معاذ هو الصادق المصدوق : (يا معاذ ! والله إني لأحبك) فيقول معاذ بن جبل : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فوالله إني لأحبك، فيقول الحبيب المصطفى: (فلا تدعن أن تقول في دبر -أي: بعد- كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فاطلب العون من الله، وقل له: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واطرح قلبك -أيها الحبيب- بين يدي الله، واعترف له بفقرك وضعفك وعجزك وتقصيرك، وقل: يا رب! لو تخليت عني بفضلك ورحمتك طرفة عين لهلكت وضللت، لا حول لي ولا قوة لي إلا بحولك وقوتك وصولك ومددك. عبد الله! من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاطلب من الله أن يعينك على العمل الصالح الذي يرضيه.
مثل عليا في المداومة على العمل الصالح
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! إلى حضراتكم أسوق بعض النماذج المشرقة .. إنها المثل العليا .. إنها القدوات التي يجب أن نرنو بأبصارنا إليها في وقت قدم فيه كثير من الفارهين التافهين ليكونوا القدوة والمثال لأمة مسكينة تشرذمت وتبعثرت كتشرذم وتبعثر الغنم في الليلة الشاتية المظلمة الممطرة. مثل عليا استمروا على العمل الصالح، وقدموا أروع النماذج لهذه المداومة حتى وصلوا إلى أن يبشروا بالجنة وهم في الدنيا.......
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
هذا هو الصديق صديق الأمة رضوان الله عليه، يسأل النبي أصحابه يوماً من الأيام -والحديث في صحيح مسلم - فيقول: (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فيقول أبو بكر : أنا يا رسول الله! فيقول: من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فيقول أبو بكر : أنا يا رسول الله، فيسأل النبي: من تبع اليوم جنازة؟ فيقول أبو بكر : أنا يا رسول الله! فيسأل النبي: من عاد اليوم منكم مريضاً؟ فيقول أبو بكر : أنا يا رسول الله! فيقول المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) يبشر بالجنة وهو لا زال يمشي على وجه الأرض. ومن الذي يبشره؟! هل هي هيئة مشبوهة يهودية أو ماسونية؟ لا. وإنما الذي يبشره بالجنة أعظم البرية صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى قال: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). إنه التسابق! إنه التنافس على الخيرات والطاعات، وبهذا ارتقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدرجات العالية، فبشر بعضهم بالجنة من الصادق المصدوق وهو لا زال يمشي على التراب، ويعيش بين الناس في هذه الدنيا.
بلال بن رباح رضي الله عنه
وإليك المثل الثاني والأخير: وهو لعبد من العبيد .. إنه العبد الحبشي الأسود، صاحب البشرة السمراء النيرة.. إنه العبد الذي عذب على رمال مكة الملتهبة التي تذيب الحجارة والحديد والصخور، فوضع على ظهره فوق هذه الرمال الملتهبة، ووضعت الحجارة على صدره، فلما انقطعت أنفاسه رفع يده ليشير بسبابته وهو يقول في صوت متقطع: أحد.. أحد.. يشير إلى وحدانية الملك جل وعلا! إنه بلال رضوان الله عليه، عبد من العبيد أسمر اللون، مزدرى في أرض الجزيرة ممتهن محتقر، فلما عرف الله أعلى الله قدره بالإسلام وبالإيمان وباتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فنال الدرجة الشامخة التي ارتقى إليها، بعد أن كان بالأمس القريب على رمال مكة في أرض الجزيرة خادماً لسيد من سادة الكفر في مكة، قال له الحبيب يوماً -والحديث في الصحيحين- : (يا بلال ! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) الله أكبر! إنه لأمر عجب!! بلال العبد؟! نعم. رقاه الإسلام فارتقى به من العبودية للعبيد إلى العبودية لرب العبيد، والعبودية للملك جل وعلا عزة ورفعة، وكلما ازددت عبودية لله كلما زادك الملك رفعة ورقياً وقربى، لذا امتن الله على حبيبه صلى الله عليه وسلم بصفة العبودية في أعلى المقامات وأجلها، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] فالعبودية لله شرف، والعبودية لله عز، والعبودية لله كمال، والعبودية للعبيد ذل وحقارة وامتهان. ما جاء الإسلام إلا ليخرج الناس من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. بلال الحبشي الذي ارتقى بالإسلام والإيمان، يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بلال ! أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) بل إن رواية الترمذي بهذه الصيغة: (يا بلال ! أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني رأيتك قد سبقتني إلى الجنة) الله أكبر! وفي لفظ: (فإني سمعت خشخشة نعليك بين يدي في الجنة) أتدرون ما هو هذا العمل؟! إنه المداومة على العمل الصالح. قال بلال : (إن أرجى عمل عملته أنني ما توضأت وضوءاً أو تطهرت طهوراً إلا وصليت لله عز وجل ركعتين)، وفي لفظ الصحيحين: (إلا وصليت لله بهذا الطهور -أو بذلك الطهور- ما كتب لي أن أصلي) إذا توضأ أو تطهر في ساعة من ليل أو نهار قام يصلي بهذا الطهور أو بهذا الوضوء ما كتب الله عز وجل له أن يصلي. إنه الحرص والمداومة على الأعمال الصالحات التي ترضي رب الأرض والسموات جل وعلا.
التذكير بالموت
أيها الأحبة! أخيراً أقول: اذكر الموت .. فإنك إذا علمت أن أقرب غائب تنتظره هو الموت حرصت على أن تستغل كل ساعة من عمرك في طاعة الملك جل وعلا، فذكر نفسك أيها الحبيب بهذا الغائب القريب، وقل لنفسك: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ذلك ما كنت منه تهرب. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أنك تموت والله حي لا يموت. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ذلك ما كنت منه تهرب، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأديب! يا أيها المفكر! يا أيها الوزير! يا أيها الرئيس! يا أيها الملك! يا أيها الحبيب! ويا أيها الحقير! كل باك فسيُبكى كل ناع فسينعى كل مدحور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أخي الحبيب! بادر بالتوبة فإن الموت أقرب غائب ينتظر: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسياً ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا أيها الحبيب! اغتنم ما بقي من العمر! لقي الفضيل بن عياض رجلاً فسأله الفضيل عن عمره: كم عمرك؟ قال: ستون سنة، قال الفضيل : إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل، فقال له الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم. عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع. فقال الفضيل : يا أخي! فمن عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل ! وما الحيلة؟ قال الفضيل : يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي. فعد إلى الله أيها الحبيب! وداوم على العمل الصالح. يا من فرطت في الأسبوع أو في الأيام القليلة هذه بعد رمضان عد إلى الطريق.. عد إلى الطريق.. عرفت فالزم، ذقت الحلاوة فالزم، من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، فاقترب من الخير واقترب من الفضل، ووالله الذي لا إله غيره إن الدنيا دار ممر وإن الآخرة هي دار المقر. أين أجدادك؟! أين آباؤك؟! أين من سبقنا بالأموال والجاه والسلطان؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان فالمداومة على العمل الصالح من شعار المؤمنين وأهل الإيمان. أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم للمداومة على العمل الصالح الذي يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم استعملنا لطاعتك يا رب العالمين! اللهم استعملنا في طاعتك يا أرحم الراحمين! اللهم يا من أعنتنا على الصيام فصمنا وعلى القيام فقمنا؛ خذ بنواصينا إليك لنرضيك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا فنهلك.. اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا فنهلك.. اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك يا رب العالمين.. اللهم أسعدنا في الدنيا بطاعتك، وفي الآخرة بجنتك.. اللهم أسعدنا في الدنيا بطاعتك وفي الآخرة بجنتك. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ......
0 commentaires
إرسال تعليق